الحل العربي .. أكذوبة بائسة


إياد أبو شقرا

إياد أبو شقرا

إياد أبو شقرا

ما هو القاسم المشترك هذه الأيام بين جامعة الدول العربية ونظام بشار الأسد والمرشح الرئاسي الجمهوري اليميني المتطرف نيوت غينغريتش؟

بلا لف أو دوران أو مراوغة – كما حذر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس الوزراء القطري، حكام سوريا قبل أسابيع – القاسم المشترك هو.. العروبة!

.. نعم العروبة.

فجامعة الدول العربية، التي أظهرت سخاء غير مسبوق في إعطاء المهلة تلو المهلة لحكم بشار الأسد لكي يحصد ما أتيح له حصده من أرواح بريئة، في أي مكان تطاله «شبيحته» وآلته القمعية.. على امتداد سوريا، تذرعت وما زالت تتذرع، بأن «سياسة المهل» تنبع من حرصها على.. «الحل العربي».

ووزير الخارجية السوري، وليد المعلم، برر امتناع دمشق عن رفض ما يوصف بـ«المبادرة العربية» صراحة، وتفضيلها المراوغة عبر رسائل الـ«نعم ولكن»،.. أيضا بالحرص على الحل العربي!.. مع أن ثمة مَن قد يقول إن تحالفات دمشق الإقليمية تنم عن أي شيء إلا نقاء عروبتها.

أما «ثالثة الأثافي».. فجاءت هذه المرة من منابر مزايدات الجمهوريين المتطرفين المتسابقين على الصوت الصهيوني في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة. وكان النجم الأول بلا منازع «دكتور» التاريخ – وهو كذلك فعلا – نيوت غينغريتش، الرئيس السابق لمجلس النواب، وصديق كل أنواع الأصوليات والرجعيات في أميركا. فقد قرر غينغريتش من منطلق «عروبي» يحسده عليه حتى كبار منظري الجيل الرابع ممن تبقى من حزب البعث، أن «الشعب الفلسطيني وهم اخترع اختراعا.. وهو جزء من الشعب العربي الذي حكمه العثمانيون حتى بواكير القرن العشرين».

مع رياح «عروبة» من هذا النوع، لا يعود صعبا فهم طبيعة الواقع الذي تعيشه المنطقة حاليا. بل يصبح بديهيا أن إطالة الكلام تميع الحقائق وتموهها.

جامعة «الدول» العربية تحمل تسمية دقيقة لأنها مؤسسة تمثل «الدول»، بمعنى الأنظمة والحكومات العربية لا شعوبها. وبالتالي، فعجز الجامعة عن التحرك والحسم يعكس تماما عجز الأنظمة والحكومات التي تمثلها. وبعد تسعة أشهر من اعتماد حكم بشار الأسد ذراع البطش والقمع ومحاولة ترويض الناس بالمجازر.. ينكشف بوضوح ليس فقط تواطؤ بعض الأنظمة «العربية» مع زحف مشروع الهيمنة الإيراني، بل يكشف أيضا هلع عدد آخر من الأنظمة من هذا الزحف، وفقدانها الثقة بجدية مَن يهدد ويتوعد بـ«وقفه عند حده» بكرة وأصيلا.

اليوم كل ما تفعله الجامعة، بحجة إنجاح «الحل العربي» وقطع الطريق على «التدويل»، هو التخلي عن الشعب السوري وخذلان ثورته، وتوجيه مزيد من رسائل «الطمأنة» لحكم سوري آخر همومه «العروبة»، وأقل من يقيم لهم وزنا «العرب»… أو «الأعراب» حسب «شبيحته الإعلاميين».

الجامعة، حماها الله من نفسها، تؤكد اليوم للحكم في دمشق تكرارا كم كان مصيبا عند استخفافه بها، ولا سيما أنه راهن بنجاح حتى الآن على تمتعه بدعم القوتين الإقليميتين، إسرائيل وإيران، اللتين طالما راهن عليهما، بل شكّل دائما نقطة التلاقي الضمني بينهما.

أما عن الحكم السوري، فإنه حقا، بعد تسعة أشهر من القمع المتصاعد ما عاد مضطرا لشرح شيء. إنه، كما أظهرت الأحداث الجسام التي مرت على المنطقة العربية، سنة بعد سنة.. منذ عام 1970، «قطاع هدنة» إيراني – إسرائيلي. إنه «بانمونجوم» عربية منزوعة سلاح – إلا للقمع طبعا – مع اختلاف واحد هو أنه يفصل بين شعوب ودول، بينما «خط الفصل» عند بانمونجوم يفصل شعبا واحدا يعيش في شطري كوريا.

طيلة الأشهر التسعة الأخيرة كان الحكم السوري يراهن على كسب الوقت، واستغلال قطف قوى الإسلام السياسي «ثمار» ثورة «الربيع العربي» لكي يضع «الخطر الأصولي الإسلامي» أمام أعين المجتمع الدولي. وهذا أمر أعتقد أنه كان في بال بعض من تبقى من أذكياء في حاشية الرئيس، وهم حتما أذكى من مخططي مبادرات جامعة الدول العربية.

ولكن، في المقابل، يبقى ذكاء المرتبطين بالحكم السوري نسبيا. وحسنا فعل الرئيس بشار الأسد في قول ما قاله في مقابلته مع الإعلامية باربرا والترز؛ لأن ما سمعناه وسمعه العالم هو حقا خلاصة أفكاره ومفاهيمه وتصوراته السياسية ونظرته إلى المجتمع الدولي ومؤسساته. وكان مضحكا مبكيا اضطرار الناطق باسم الخارجية السورية – الذي يعرف الغرب وعاش في الغرب – للاعتراض على ما وصفه بـ«الاجتزاء المتعمد» لكلام الرئيس من قبل محطة «إيه بي سي» الأميركية. والواضح أن الغاية من الاعتراض، بجانب السعي لاحتواء فشل رهان تجربة «العلاقات العامة» البائسة، إيهام مصدقيه من السوريين بأن الـ«إيه بي سي».. «بوق» سياسي تضليلي آخر، على شاكلة وسائل الإعلام السورية الحكومية والوسائل اللبنانية الخاصة «الإلهية».

ونصل إلى «الدكتور» غينغريتش.

المشكلة مع هذا الرجل ثلاثية الأبعاد:

بُعدها الأول، هو التضليل الفاقع المناقض للمنهجية العلمية. فهو يتجاهل أنه من الناحية العلمية البحتة كل الهويات القومية «مخترعة» بطريقة أو بأخرى، وحبذا لو يعطينا غينغريتش تعريفا علميا للشعب «الأميركي»، أو للهويات القومية في أوروبا التي تخصص بتاريخها. كيف تبلورت الهوية (أو الهويات) الإيطالية والهوية (أو الهويات) الألمانية؟ وماذا كان شأن الإيطاليين قبل ماتزيني وكافور وغاريبالدي؟ وكيف سيكون عليه بعد سنوات في ظل «رابطة الشمال» وشعار بادانيا؟ ألا يشرح لمستمعيه الأميركيين شيئا عما تعنيه كلمات من نوع «بروسيا» و«فرانكونيا» و«سوابيا» و«أليمانيا»؟

البُعد الثاني، هو نظرة غينغريتش لمفهومَي الحق والعدل، مع أن تاريخه السياسي لا يشجع على الخروج بنتيجة يعتد بها في هذا المجال. إن «عروبة» الشعب الفلسطيني مسألة لا جدال فيها، والشيء نفسه ينطبق على الشعب التونسي والشعب اليمني وسائر الشعوب العربية.. لكن هذا الكلام لا يبرر اقتلاع الناس بقوة السلاح وتحت التهديد بالمجازر من بيوتهم وقراهم، وقتلهم، وتجريف أرضهم، وتهجيرهم وتحويل أرضهم وأرض جدودهم، إلى كيانات دينية وطائفية يرسم حدودها المصطنعة «الفاشيون» القدامى والجدد.

أما البُعد الثالث والأهم، فهو أن الرئيس السابق لمجلس النواب الأميركي يتعمد نسف مسار سياسي تعاملت معه المنظمات الدولية منذ ما قبل 1948، وتصر دولته على احتكار رعايته – ولو بأسوأ صورة ممكنة – عبر عملية تفاوضية علنية. وهكذا فإن غينغريتش يسعى لنسف صدقية أي دور تفاوضي لواشنطن في أي من نزاعات الشرق الأوسط. أما أخطر ما في كلام غينغريتش، الموجه أولا وأخيرا إلى صقور «اللوبي» الصهيوني الليكودي في أميركا، وعمقه المسيحي الأصولي الأميركي المبشر بالتعجيل بـ«يوم القيامة»، أنه يزكي في منطقة الشرق خيار التطرف الديني، ويهدي كل قوى التطرف الديني – بلا استثناء – سلاحا فعالا, وهذا هو اليوم الخيار المدمر الذي تتوسله توسلا إسرائيل تحت قيادتها الحالية للهروب من أي استحقاق للسلام. سلام مع مَن؟ «شعب مخترع»؟.. أم مع أصوليين إسلاميين؟

*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”

معلومات عنّا Abu Bakr Saleh
كتاباتنا تنبع من الشارع الذي نعيش فيه .... واقع الثورة السورية

أترك رداً